بسم الله الرحمن الرحيم
ولا : الأحاديث المستنبطة جواز التقية من القرآن الكريم :
هناك جملة وافرة من الأحاديث التي فسرت بعض الآيات القرآنية بالتقية ، نذكر منها :
1 - عن هشام بن سالم ، عن الإمام الصادق عليه السلام ، في قول الله تعالى : ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) قال : بما صبروا على التقية ( ويدرؤن بالحسنة السيئة ) ( 1 ) قال : الحسنة : التقية ، والسيئة : الإذاعة ( 2 ) .
2 - وعنه عليه السلام في قوله تعالى : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) قال : الحسنة : التقية ، والسيئة : الإذاعة . وقوله عز وجل : ( إدفع بالتي هي أحسن ) . . . قال : التي هي أحسن : التقية - ثم قرأ عليه السلام - : ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) ( 1 )
ولا يخفى : أن تفسير الحسنة بالتقية ، والسيئة بالإذاعة ، هو من باب تفسير الشئ ببعض مصاديقه ، وهذا مما لا ينكر ، فلو توقف مثلا صون دم مسلم على التقية فلا شك في كونها حسنة ، بل من أعظم القربات ، وأما لو ترتب على الإذاعة سفك دم حرام ، فلا ريب بعد الإذاعة سيئة بل من أعظم الموبقات .
هذا ، وقد تجد في هذا النمط من الروايات ما يدل على عمق تاريخ التقية في الحياة البشرية ، باعتبارها المنفذ الوحيد المؤدي إلى سلامة الإنسان أزاء ما يعرضه للفناء ، أو يقف حجرا في طريق المصالح المشروعة ، كما حصل ذلك لبعض الأنبياء عليهم السلام ، ومن تلك الروايات : عن أبي بصير ، قال : ( قال أبو عبد الله عليه السلام : التقية من دين الله ، قلت : من دين الله ؟ قال : إي والله من دين الله ، ولقد قال يوسف : ( أيتها العير إنكم لسارقون ) ( 2 ) والله ما كانوا سرقوا شيئا .
ولقد قال إبراهيم عليه السلام : ( إني سقيم ) ( 3 ) والله ما كان سقيما ( 4 ) .
ومما يجب التنبيه عليه هنا ، هو أن تقية يوسف عليه السلام إنما هي من جهة قول المؤذن الآتي ، الذي صحت نسبته إلى يوسف عليه السلام باعتبار علمه به مع تهيئة مقدماته .
فانظر إلى قوله تعالى : ( ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون * فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ) ( 1 ) .
ستعلم أن قول المؤذن كان بتدبير يوسف عليه السلام وعلمه ، وهو لم يكذب عليه السلام ، لأن أصحاب العير كانوا قد سرقوه من أبيه وألقوه في غيابات الجب حسدا منهم وبغيا .
ومما يدل على صدق يوسف عليه السلام أن إخوته لما قالوا له بعد ذلك : ( يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه ) ( 2 ) . لم يقل عليه السلام لهم بأنا لا نأخذ إلا من سرق متاعنا ، بل قال لهم : ( معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده . . ) ( 3 ) .
وبالجملة فإن تقية النبي يوسف عليه السلام إنما هي من جهة ظهوره بمظهر من لا يعرف حال إخوته مع إخفاء الحقيقة عنهم مستخدما التورية في حبس أخيه .
وعليه تكون تقيته هنا ليست من باب الأحكام وتبليغ الرسالة حتى يزعم عدم جوازها عليه ، بل كانت لأجل تحقيق بعض المصالح العاجلة كاحتفاظه بأخيه بنيامين ، والآجلة كما يكشف عنها قوله لهم بعد إن جاءوا من البدو : ( أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) ( 4 ) .
وجدير بالذكر أن البخاري قد أخرج في صحيحه بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - من طريقين - أنه قال : . . ولو لبثت في السجن ما لبث
يوسف لأجبت الداعي ( 1 ) ! ! ولا أعلم فرية تجوز على أشرف الأنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم التقية في ارتكاب ما أبى عنه يوسف عليه السلام واستعصم فيما لو جعل صلى الله عليه وآله وسلم مكانه عليه السلام من هذه الفرية التي ليس بها مرية .
هذا ، وأما عن تقية إبراهيم عليه السلام ، فهي نظير تقية يوسف عليه السلام ، وذلك باعتبار أنه أخفى حاله وأظهر غيره بهدف تحقيق بعض المصالح العالية التي تصب في خدمة دعوة أبي الأنبياء عليه السلام إلى التوحيد ونبذ الشرك ، مثل تكسير الأصنام وتحطيمها ، وليس في قوله : ( إني سقيم ) أدنى كذب ، لأنه ورى عما سيؤول إليه حاله مستقبلا ، بمعنى أنه سيسقم بالموت ، فتكون تقيته عليه السلام في موضوع لا في حكم حتى يتأمل فيها .
ومن هنا كانت كلمة أهل البيت عليهم السلام قاطعة في صدق إبراهيم عليه السلام في تقيته . ولكن أبى البخاري إلا أن يكذب إبراهيم عليه السلام ، فقد أخرج في صحيحه من طريقين عن أبي هريرة نفسه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثا وفي لفظ آخر : لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ( 2 ) .
ولم يكتف البخاري بهذا ، بل أخرج بسنده عن أبي هريرة نفسه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( . . إن الله يجمع يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد . . . فيأتون إبراهيم فيقولون : أنت نبي الله وخليله من الأرض إشفع لنا إلى ربك ، فيقول - فذكر كذباته - : نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى موسى ) .
ثم قال البخاري : ( تابعه أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) ( 1 ) ! !
أقول : معاذ الله أن نصدق بهذه الأكاذيب وإن قالوا بوثاقة رواتها ! ، وكيف لا نكذبهم وقد رموا من قد رفع الله محله ، وأرسله من خلقه رحمة للعالمين وحجة للمجتهدين ؟ وفي هذا الصدد قال الفخر الرازي في تفسيره عن خبر أبي هريرة :
( ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ) قال : ( قلت لبعضهم : هذا الحديث لا ينبغي أن يقبل ، لأن نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام لا تجوز ، وقال ذلك الرجل : فكيف يحكم بكذب الرواة العدول ؟ فقلت : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه السلام ، كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى ) ( 2 ) .
ثانيا : الأحاديث الدالة على أن التقية من الدين :
دلت جملة من الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام بأن التقية من دين الله عز وجل ومن الإيمان وأن من يتركها في موارد وجوبها فهو غير مكتمل التفقه في الدين ، من ذلك :
1 - عن أبي عمر الأعجمي ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : يا أبا عمر ، إن تسعة أعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له ( 3 ) .
وهذا الحديث لا شك فيه ، فهو ناظر من جهة إلى كثرة ما يبتلى به المؤمن في دينه ولا يخرج من ذلك إلا بالتقية خصوصا إذا كان في مجتمع يسود أهله الباطل .
ومن جهة أخرى إلى قلة أنصار الحق وكثرة أدعياء الباطل حتى لكأن الحق عشر ، والباطل تسعة أعشار ، وعليه فلا بد لأهل الحق من مماشاة أهل الباطل في حال ظهور دولتهم ليسلموا من بطشهم .
على أن وصف الحق بالقلة والباطل بالكثرة وكذلك أهلهما صرح به القرآن الكريم في أكثر من آية ، كقوله تعالى : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) ( 1 ) وقوله تعالى : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ) ( 2 ) .
كما أن الحديث لا يدل على نفي الدين عمن لا يتقي بل يدل بقرينة أحاديث أخر أنه غير مكتمل التفقه ، بل ليس فقيها في دينه ، وهكذا في فهم نظائره الآخر . ومما يدل عليه ما رواه عبد الله بن عطاء قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام : رجلان من أهل الكوفة أخذا ، فقيل لأحدهما : ابرأ من أمير المؤمنين ، فبرئ واحد منهما وأبى الآخر ، فخلي سبيل الذي برئ وقتل الآخر ؟ فقال عليه السلام : أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه ، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة ( 3 ) .
هذا ، ولا يمنع أن يكون الحديث دالا أيضا على سلب الإيمان والدين حقيقة ممن لا يتقي في موارد وجوب التقية عليه ، كما لو أكره مثلا على أن يعطي مبلغا زهيدا ، وإلا عرض نفسه إلى القتل ، فامتنع حتى قتل ، فهذا لا شك أنه من إلقاء النفس بالتهلكة ، وقد مر تصريح علماء العامة بأن مصير
مثل هذا يكون في جهنم ، ومن غير المعقول أن تكون جهنم مأوى المؤمن المتدين ، بل هي مأوى الكافرين والمنافقين وأمثالهم
ونظير هذا الحديث :
2 - عن معمر بن خلاد ، عن أبي الحسن عليه السلام قال : قال أبو جعفر عليه السلام : التقية من ديني ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقية له ( 1 ) .
3 - عن أبان بن عثمان عن الإمام الصادق عليه السلام قال : لا دين لمن لا تقية له ، ولا إيمان لمن لا ورع له ( 2 ) .
4 - عن عبد الله بن أبي يعفور ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : اتقوا على دينكم فاحجبوه بالتقية ، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له ( 3 ) .